الأحد 1 أغسطس 2021
«لا تزال المدرسة الخيربكية قائمة حتى اليوم بعد خمسمائة سنة من إنشائها، تراها وأنت صاعد إلى قلعة صلاح الدين بالقاهرة، واقفة في شموخ وعظمة إلى يسار شارع التبانة، ولكنك إن صعدت إلى القلعة، ونظرت إليها فلا ترى فيها شموخًا أو عظمة!
وهي مدرسة ومسجد، شيَّدهما ملك الأمراء خاير بك بن ملباي، ومنحهما اسمه، وبهما ضريح يثوي فيه جثمانه، وسبيل أنشأه خاير بيك ليرتوي منه كل صاعد إلى القلعة، وفوق السبيل مسكن كان مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم.
 |
مسجد ومدرسة الأمير خاير بيك |
ويوم أنشأ ملك الأمراء خاير بيك هذه المدرسة ، كان حاجبًا لحجاب السَّلطنة العربية المملوكية، وواحدًا من كبار أمراء المماليك، فاختار أن يبني ضريحه في طريق القلعة، ليقصده كل من صعد ليلقى السلطان، يروي ظمأه من السبيل، ويقرأ الفاتحة على روح مُنشئه، وما أكثر الذين كانوا يصعدون إلى القلعة، يوم كانت مصدر السٌّلطة والنفوذ، ومقر الحُكم والسلطان.
لكن الناس – حتى في تلك السنوات البعيدة – لم يرووا ظمأهم من السبيل، ولم يقرأوا الفاتحة على روح مُنشئه، ولم يطلبوا له الرحمة أو المغفرة، لأن ما فعله كان صعبًا أن يُنسى!
ذلك حدث أيضًا للسلطان قانصوه الغوري، الذي يحمل واحد من أشهر أحياء القاهرة اسمَه حتى اليوم، وهو حي الغورية، وبه وكالة الغوري وقبته ومسجده ومدرسته، وضريحه الذي بناه وزخرفه، وجعله في طريق الجامع الأزهر، ليقرأ له الفاتحة كل من يزور المسجد الشهير للصلاة، لكن الأقدار شاءت أن يموت قانصوه الغوري في صحراء مرج دابق، فتأكل الجوارح جثته، ويظل ضريحه خاليًا، يمر به السابلة في طريقهم إلى الأزهر، فلا يرتفع صوتٌ بدعاء، ولا يطلب قلبٌ مغفرة!
 |
وكالة الغوري |
وهكذا غاب أبطال هذه القصة في جوف التاريخ، ولم يبقَ منهم سوى سطور في كتب قديمة، قاومت الفناء، وظلت أقلام النُّساخ تنسخها حتى أدركت عهد المطبعة، فأمِنَتْ شر البِلَى؛ وحجارة صمدت أمام مطارق الزمن، وبقيت رغم المطر والقيظ والريح والسيل، تراها في القدس وغزة وعكا، وتراها في حلب وفي دمشق، وفي كل مدينة عربية عرفت حكم المماليك: أضرحة، وقباب، ومساجد، وأسبلة، وخوانق، ومآذن.
وبقى منهم، بعد كل هذا، وقبل كل هذا، ما صنعوه بنا نحن العرب، وما أورثوه إيانا.
أما دفء الخفقات، ورنين الضحكات، وطعم الأحزان، وعفن الأطماع... أما البطولة والنذالة والخيانة... فقد أصبحت حجارة باردة، ونقوشًا ساكنة. ضاعت جميعًا، كما تبدَّد حلم خاير بيك في أن يدعو له الصاعدون إلى مقر الحكم والسلطان بالرحمة؛ كما ضاع في صحراء مرج دابق أمل الغوري في أن يطلب له زوَّار الجامع الأزهر، المغفرة!
وتلك بعض قسوة التاريخ!»
من كتاب "رجال مرج دابق.. قصة الفتح العثماني لمصر والشام" لصلاح عيسى.