«أنا من مخيم عين الحلوة».. ناجي العلي يتحدث عن نفسه - مدونة - مكتبات الشروق
«أنا من مخيم عين الحلوة».. ناجي العلي يتحدث عن نفسه
الجمعة 4 يونيو 2021

في حوار له مع رضوى عاشور يتحدث فنان الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي عن نفسه فيقول:

«‫ ‏ولدتُ عام ١٩٣٧ في قرية الشجرة بين طبرية والناصرة قضاء الجليل ولجأت عام ١٩٤٨ إلى أحد مخيمات الجنوب اللبناني، هو مخيم عين الحلوة، بالقرب من صيدا، وكغيري من أبناء المخيم كنت أشعر بالرغبة في التعبير عن نفسي فأمشي في المظاهرات وأشارك في المناسبات القومية وأتعرض كما يتعرض سواي للقهر والسجن. وفي تلك المرحلة تشكل عندي الإحساس بأنه لابد أن أرسم وبدأت أحاول أن أعبّر عن مواقفي السياسية وهمي وقهري من خلال رسوم على الجدران. 

‫ وكنت أحرص على أن أحمل معي قلمي قبل أن أتوجه إلى السجن. وبالمناسبة كان أول من شجعني هو المرحوم غسان كنفاني الذي مر على المخيم للمشاركة في إحدى الندوات. وكان لدينا نادٍ بسيط أقمناه من الزنك. والتفت غسان إلى الرسوم الكاريكاتورية التي كانت على الحائط وتعرف عليَّ. وأخذ مني رسمتين أو ثلاثا ونشرها في «الحرية»؛ مجلة التقدميين العرب، التي كان يعمل فيها في ذلك الوقت ورغم أنني كنت قد حصلت على دبلوم في الميكانيكا والكهرباء كنت أعمل بشكل موسمي في البساتين، في قطف البرتقال والليمون، ولم يكن هناك عمل آخر متاح ولم يكن مسموحاً لأي فلسطيني أن يكون موظف بلدية.

ناجي العلي ~ غسّان كنفاني || رجلّ في الحبّ و الحرب || | Street art, Artist,  Art

‫ حاولت أن أتابع دراستي وأعبر عن نفسي بالرسم فالتحقت بالأكاديمية لمدة سنة، إلا أنني في تلك المرحلة تعرضت للسجن ست أو سبع مرات. وعملت مدرساً للرسم فترة بسيطة بالكلية الجعفرية في صور، ثم أتيحت لي فرصة السفر إلى الكويت للعمل في مجلة «الطليعة الكويتية» وهي مجلة للتقدمين الكويتيين.

‫ ‏في الطليعة كنت أعمل كصحفي ومخرج للمجلة وسكرتير تحرير. ثم بدأت أحتل مساحة في المجلة أعبر فيها عن نفسي بلغة الكاريكاتور، وتدريجيا اتسعت هذه المساحة فأصبحت أقدم عدة رسوم، ثم من صفحة كاملة ثم صفحتين إلى أن اكتشفت أن العمل الأسبوعي لا يفي بحاجتي وأنني راغب في التواصل مع الناس بشكل يومي فاخترت صحيفة يومية . ولما لم يكن هناك انسجام بين خطها وتفكيري اشترطت ألا يتدخل أحد في عملي . وكنت قد بدأت أدرك دور الكاريكاتور. وكنت ألاحظ أن رسامي الكاريكاتور في مصر (المدرسة القديمة ) يستخدمون الحوار بكثرة مما لا يعطي فرصة للقارئ لإعمال ذكائه، فاتجهت إلى عكس ذلك ورحت أخلق رموزا يصير تكرارها نوعا من اللغة المشتركة بيني وبين القارئ.‏

Naji al-ali Palestinian cartoonist | Palestine art, Cartoonist, Caricature

‫ ‏عندما ذهبت إلى الكويت كان همي أن أدخر «قرشين» كأي شخص يتوجه إلى مجتمع استهلاكي من هذا النوع وأذهب بعد ذلك إلى دراسة الرسم في القاهرة أو في روما، ثم اكتشفت أن الكاريكاتور يرضيني و أنه بدلا من أن أقيم معرضاً كل عام أو عامين يصل إلى شريحة معينة من رواد المعارض اقتنعت بدور الكاريكاتور وأجلت طموحي الشخصي بالتعبير عن نفسي، وقلت: حين ترجع البلاد ولو كنت ما زلت على قيد الحياة أكون قد تقدمت في العمر فأجلس في ركني أعبر عن نفسي بلغة التشكيل والألوان.

‫ في الكويت عانيت كثيرا، وحياة الفنان في مجتمع استهلاكي ليست مسألة بسيطة. لي أصدقاء كثيرون كنا نناضل معاً وسجناً معاً. سنة واحدة في الكويت وأغرقهم المجتمع الاستهلاكي «تمسحوا» (أي صاروا عديمي الإحساس). زال عنهم الإحساس بالواجب تجاه جماهيرهم ومخيماتهم. بتلك المرحلة ولدت شخصية حنظلة ويومها قدمته للقراء بشرح وافٍ. «أنا حنظلة من مخيم عين الحلوة، وعد شرف أن أظل مخلصاً للقضية وفياً لها...إلخ». والحق أن هذا العهد كان عهداً أقطعه على نفسي. شخصية هذا الطفل الصغير الحافي هي رمز لطفولتي. أنا تركت فلسطين في هذه السن وما زلت فيه. رغم أن ذلك حدث من ٣٥ سنة، فإن تفاصيل هذه المرحلة لا تغيب عن ذاكرتي وأشعر أني أذكر وأعرف كل عشبة وكل حجر وكل بيت وكل شجرة مرت عليَّ في فلسطين وأنا طفل. إن شخصية حنظلة كانت بمثابة أيقونة حفظت روحي من السقوط كلما شعرت بشيء من التكاسل أو بأنني أكاد أغفو أو أهمل واجبي. أشعر بأن هذا الطفل كنقطة ماء على جبيني يصحّيني ويدفعني إلى الحرص ويحرسني من الخطأ والضياع. إنه كالبوصلة بالنسبة لي، وهذه البوصلة تشير دائماً إلى فلسطين. وليس فقط إلى فلسطين بالمعنى الجغرافي ولكن بالمعنى الإنساني والرمزي، أي القضية العادلة أينما كانت في مصر أوفي فيتنام أو في إفريقيا الجنوبية.

حنظلة" ناجي العلي: طفل فلسطين الحاضر في الذاكرة - BBC News عربي

‫ وأنا شخصياً، إنسان منحاز إلى طبقتي. منحاز للفقراء وأنا لا أغالط روحي ولا أتملق أحداً. والقضية واضحة ولا تحتمل الاجتهاد: الفقراء هم الذين يموتون وهم الذين يسجنون وهم الذين يعانون معاناة حقيقية. هناك طبعاً من تاجر بقضايا الفقراء، وهناك من يمر بمرحلة النضال مرور ترانزيت ويطالب بعد ذلك بأن يصبح نجماً أبدياً. المناضل الحقيقي دائم العطاء يأخذ حقه من خلال حق الآخرين وليس على حسابهم.

‫ ويلاتنا كثيرة ومرارتنا كثيرة وأنا لا أتحدث كفلسطيني فقط ولكن كابن مخيم في لبنان، وأشعر أنني مدين لأبناء مجتمعي. هناك كثيرون ضمن مواقع السلطة والمؤسسات لا يرضيهم عملي. الأنظمة تحب أن يكون الفنان أو المثقف أو الصحفي أداة من أدواتها فيعلّقوا له النياشين والأوسمة، ولكن بتقديري أن على الفنان أن يكون مخلصا لجماهيره.

‫ أنا من مخيم عين الحلوة، وعين الحلوة مثل أي مخيم آخر. أبناء المخيمات هم أبناء أرض فلسطين. لم يكونوا تجاراً ولا ملاكاً. كانوا مزارعين فلما فقدوا الأرض فقدوا حياتهم فذهبوا إلى المخيمات. كبار البرجوازيين لم يأتوا للإقامة في المخيمات، أبناء المخيمات هم الذين تعرضوا للموت ولكل المهانة ولكل القهر. وهناك عائلات كاملة استشهدت في مخيماتنا، وهؤلاء الفلسطينيون هم الذين يعنونني حتي حين أتغيب عن المخيم بحكم ظروف عملي.»


جزء من حوار لناجي العلي مع رضوى عاشور عام 1985، والحوار منشور بالكامل في كتابها "لكل المقهورين أجنحة" الصادر عن دار الشروق عام 2019.

لطلب الكتاب:

في هذا الكتاب ما يمكن أن يكون استكمالا لدرجات الضوء القادم من شخصية رضوى عاشور.

إنه الضوء المطل من اشتباكها مع النظريات النقدية ومع النقد التطبيقي. والضوء القادم من مساءلتها لتجربتها الروائية وإعادة تعريفها لا لفن الرواية بل للتاريخ أيضاً؛ حتى لا يستسهل أحد بعد اليوم التورط في كليشيه " الرواية التاريخية" بتبسيط لا يليق. والضوء القادم من معارضة شجاعة للأوضاع الضاغطة على الجامعات المصرية وتصديها المبكر لممارسات سياسية وأكاديمية واجتماعية لم تسكت عنها يومًا حتى وهي في العمر الساري بين الطفولة والشباب. والضوء القادم من بوح شخصي عن بواعثها للكتابة وعلاقتها باللغة العربية تراثاً وجمالًا. وضوؤها الذي قاوم التطبيق قبل أن يلتفت الكثيرون لمخاطره المتعددة.

بقراءة هذا الكتاب تتضح لكنّ ولكم صورة رضوى عاشور فى أدق تفاصيل نبلها وروعة تنوعها. هذا جمال ضد القبح. وكما قال رفيق عمرها الشاعر مريد البرغوثي:

"ابتسامتها رأي، وموضع خطوتها رأي، وعناد قلبها رأي، وعزلتها عن ثقافة السوق رأي. رضوى جمال رأيها ورأيها جمالها".

شارك بتعليقك
جميع الحقوق محفوظة - مكتبات الشروق 2024