الخميس 22 يوليه 2021
في كتابه "جنوبًا وشرقًا.. رحلات ورؤى" يحكي الكاتب الكبير محمد المخزنجي عن زيارته إلى رأس الرجاء الصالح، يقول:
وقفنا عند قمة رأس الرجاء الصالح فاجتاحتنا رعدة. كان المحيط الأطلنطي عن يميننا والمحيط الهندي عن شمالنا، ومن تمازج زرقة المحيطين الممتدة حتى الأفق تلوح أطياف خمسة قرون مضت منذ دار البرتغالي «بارتليميو دياز» دورته ـ الصدفة ـ عام 1448 حول المكان. أرعبه عويل الريح فأسمى المكان «رأس العواصف». لكن مليكه الحالم بالوصول إلى الهند عبر المحيط وقطع طريق التوابل والبهار على التجار المسلمين أدرك خطورة الكشف فأعاد تسمية المكان تيمنا «رأس الرجاء الصالح». ومع فاسكو ديجاما ـ البرتغالي أيضا ـ وطأت أوربا أرض إفريقيا عند أقصى جنوبها فتحولت الأرض البكر للرعاة البدائيين إلى مأزق مستمر. منذ القرن الخامس عشر حتى يومنا ورأس الرجاء لا يمتلك قوة الإقناع بأنه صالح للجميع. مازال رأس العواصف؛ وإن لاحت محاولة أخيرة لإصلاحه(*)، وعلى مشارف هذه المحاولة وقفنا، فماذا يدور هناك؟
طبق أوربي بتوابل آسيوية ولحم إفريقي، سجلت انطباعي الأول ونحن نعبر باب الفندق في أول جولة استطلاعية بشوارع جوهانسبرج، المدينة التي شيدها الذهب وارتبطت نشأتها باكتشافه عام 1886. بدت لنا لأول وهلة كمدينة متناقضات، فهي أكبر مدن جنوب إفريقيا، يسكنها قرابة المليونين، ومع ذلك ليست العاصمة رغم تعدد عواصم هذا البلد، فالعاصمة الإدارية «بريتوريا»، والعاصمة التشريعية «كيب تاون»، والعاصمة القانونية «بلويمفوتين».
كنا مستكشفين أبرياء عندما أخذنا نبتعد عن المركز البراق حيث فنادق «الكارلتون» و«صن» وبسرعة أخذ شيء ما يتبدل في طبيعة الشوارع دون أن ندركه بوضوح. كانت الشوارع تتحول إلى شوارع أكثر سوادا مع كل خطوة حتى لم نعد نرى شخصا أبيض واحدا رغم أن المدينة لم تزل أوربية كما عند مركزها. لم يكن على الأرصفة غير بائعي الفواكه والخردوات السود. وعند أحد المحال قرأت لافتة «صيدلية الزولو»، وبعد نظرة إلى الواجهة وإطلالة على جوف المحل قررنا الدخول. فقد كانت الصيدلية ملمحا آخر للتناقض في هذه المدينة، فإضافة إلى الأعشاب الهندية كانت هناك مراهم دهن التمساح ونسائر لحم الخرتيت المجففة وتلك الدروع المميزة لقبائل الزولو التي يصنعونها من قطعة جلد حيوان تأخذ شكلا بيضاويا يخترمه صفان من الفتحات وينفذ في أركانها رمحان متقاطعان. دروع بأحجام مختلفة تبدأ من مساحة كف طفل وتكبر حتى تصير بمساحة صدر رجل. وعرفنا أنها لا تصد سهاما ولا حرابا، بل تحول دون هجمات الأرواح الشريرة!
وبينما كان الحديث يمضي بنا ونحن نطوف مع البائع الهندي بأركان هذه الصيدلية العجيبة، إذ بالبائع ينتفض بهلع وتعاطف، هتف قائلا: «ينبغي أن تنصرفوا الآن وبأقصى سرعة قبل الغروب فأنتم في منطقة بشعة».
قلت له: لكنك هنا رغم بشاعتها، ومحلك مفتوح. ولم يجب إذ رفع قميصه لنجد مسدسا ضخما يلتصق ببطنه مغمودا بين جلده والحزام.
وأسرعنا نهرول في شوارع جوهانسبرج باتجاه المركز بينما زميلي المصور يقبض على آلة التصوير بكلتا يديه ويضمها إلى صدره وأنا أتبعه قابضا على السلاح الوحيد الذي أمتلكه: قلم مفتوح، في جيبي، للدفاع عن النفس!.
(*) جرى الاستطلاع في ديسمبر 1992؛ أثناء المفاوضات بين حزب مانديلا وحكومة ديكليرك آخر حاكم أبيض لهذه البلاد.